آن الأوان لمراجعة الفصل بين الفرعين الأدبي والعلمي، وغيرهما من فروع في مدارسنا؛ لأن هذا التفكير، ببساطة، لا يتماشى مع المستجدات والقواعد التربوية السليمة.
لربما كان هنالك مبرر في وقت ما.
كان كثير ممن يتخرجون من المدرسة، وغالباً قبل الحصول على الثانوية العامة، يُوَظَّفون معلمين في المدارس ولعلّ الحاجة كانت مُلحّة لبُعدٍ تخصصيٍّ يُمكّن معلم المادة «العلمية» ومعلم المادة «الأدبية» من تدريسهما بإلمام وتركيز، وبالذات في غياب أو نُدرة خريجي جامعات متخصصين في حينه.
لكن بعد أن أصبح التعليم الجامعي التخصصي مُتاحاً منذ ستينيات القرن الماضي، ما مُبرّر الفصل الآن؟
في اعتقادي لا يوجد أي مبرر، وإذا كان أحدهم يؤمن بوجوده فليعلمنا.
هنالك عدة عوامل تجعل الفصل ليس غير مجبب فحسب، بل ربما مؤذياً ومضراً.
أوّلها، أنّ الطلبة لا يكونون في هذه المرحلة المبكرة مستعدين أو قادرين على تحديد رغباتهم بين «أدبي» و «علمي» و «تجاري» و «صناعي» وغيره.
الأصل أن يبدأ التّحديد في المرحلة الجامعية؛ وفي الجامعات الأمريكية يُعطى الطلبة فرصة حتى السنة الثالثة لاختيار تخصص أو أكثر، بعد أن يكونوا قد درسوا عدة مواد من حقول مختلفة تُمكّنهم من التعرف على ميولهم ورغباتهم.
كم طالب عندنا اختار أو أُجبر على فرع نَدِم أو فَشل أو تأذّى؛ في حين أنه كان سيكون سعيداً ومبدعاً لو اختار ما يناسب ميوله وقدراته؟
ومن المثير في هذا السياق، أن العديد من الجامعات الأمريكية والكندية، وهي من بين الأكثر مرونةً وتقدماً، تقبل الطلبة في السنة الأولى تحت مسمى «غير مُقرِّر» وتُعطيه سنتين، وربما أكثر، ليُقرّر ما يُلائمه.
ثانيها، إنّ المُسمّيات نفسها، «علمي»، «أدبي»، «تجاري» وغيره، لم تعد مناسبة، وربما لم تكن مناسبة أصلاً. هل كلمة «أدبي» تعني أنّ من يختار هذا الفرع سيكون بالضرورة ميّالاً لتذوّق وتقبّل الفلسفة، مثلما يتذوق ويتقبل علم الاجتماع وعلم النفس وإدارة الأعمال واللغات والآداب والعلوم السياسية والآثار وغيرها؟ وهل كلمة «علمي» تعني أن من يختار الفرع سيجد نفسه في الفيزياء والكيمياء والأحياء والرياضيات والجبر والهندسة مجتمعة.
ثالثها إنّ التّوجّه التربوي السليم اليوم، في المدارس والجامعات الرائدة، هو الدمج أو التداخل وليس الفصل.
في جامعات كُثر يُبدع الطلبة في الحقول البينية؛ والعديد من المعارف الجديدة اليوم تتأتى نتيجة للتشبيك والتداخل لا للعزل والفصل.
ومن هنا تُتيح العديد من الجامعات للطلبة التّخصص، على سبيل المثال، في الرياضيات والاقتصاد، في الأحياء والآثار، في الهندسة وإدارة الأعمال؛ أمور مستحيلة عندنا.
رابعها أنّ الفصل خَلقَ تحيّزاً لفرع وتمييزاً ضد فرع آخر؛ حيث يُنظر لمن لم يلتحقوا بالفرع الأكثر رواجاً على أنّهم أقلّ ذكاءً وأقلّ أهمية؛ وأن الآخرين أنْبَهُ وأشطرُ وأبرعُ؛ مما يجعل هذا الفصل أشبه ما يكون بالفصل العنصري المقيت.
خامسها، إنّ مجتمعنا يخسر الكثير بسبب هذا الفصل، لأنّ التّجربة والدراسات أثبتتا أن المجتمعات لا تتقدم بالعلم وحده؛ ولا بالعلوم الإنسانية والاجتماعية وحدها؛ بل بهما مجتمعين ومتكاملين.
هذا فصل غير محمود، وينبغي إعادة النظر فيه، عاجلاً لا آجلاً.